برشامة اقتصاد
تَضخُم، رُكود، سِعر الفائدة، سعر الصرف. كَثُرت المُصطلحات الاقتصادية واصبح الفرد العادي منّا قليل المعرفة بالعلوم الاقتصادية حائرا غيرَ مُستوعب لما يدور حَوله من تقُلبات أو قرارات اقتصادية.
لو أردنا أن نُشبه عملية ادارة الاقتصاد، فإن أفضل تصوير لها هي سفينة تُبحر في خليج ضَيق تكاد تصطدم باحدى ضِفتيه المليئتين بالحِجارة الحادة والقوية التي قد تُحطم السفينة، فلو ابتعدت عن الضفة اليسرى كثيرا اصطدمت بالضفة اليمنى والعكس صحيح. فعلى رُبان السَفينة أن يوازن في تحركه بين الضِفتين حتى تسير سفينَته دون أذى.
السفينة هنا هي اقتصاد الدولة، والضِفة اليُمنى هي "التضَخُم" بينما الضِفة اليُسرى هى "الرُكود".
إن التضَخُم والرُكود هما المَرَضان اللذان يُهددان أي اقتصاد. والمبالغة في تفادي إحداهما يؤدي في النهاية إلى الوقوع في الآخر. ويجِب على الاقتصادي الماهر أن يُوازن في سياساته بين الأمرين.
التضَخُم
إن التعريفَ الأشهر للتضَخُم هو "أموال كثيرة، تُطارِد بَضائِع قليلة"
فالتضَخُم يحدُث عندما تكون السْيولة النَقدية المُتاحة للتداول داخِل الدولة أكثر بكثير من ما تُنتجه الدولة من سِلع وخدمات، أو ما يُسمى بالناتِج القَومي. والسِلع هي البَضائع المادية كالطعام والملابس والأجهِزة وغيرها. والخدمات، مثل المُواصلات والتعليم وخلافه.
عندما تكون السْيولة النَقدية المُتاحة أكثر من ما تُنتجه الدولة من سِلع وخدمات، يحدث التضخم.
لو افترضنا أن قيمة ما تُنتِجُه الدولة من سِلع وخدمات يُساوي مليون جُنيه والمُتاح من السيولة النَقدية هو مَليون جُنيه أيضا. هنا يكون التضَخُم صفر٪ . أما لو كان المُتاح من السيولة مَليونان من الجُنيهات، هُنا يحدُث التضَخُم. فهناك مَليون جُنيه زائدة لا تُقابلها بَضائع، وهو وضعٌ اقتصاديٌ غيرُ سَليم ويجب تصحيحُه.
علاج التضَخُم يتم بطريقتين، لكُلٍ منها مُميزاتها وعُيوبها.
الأولى: (رفع الفائدة)
فكما قُلنا، التضَخُم ناتج عن سيولة نقدية زائدة. ولعلاجه يقوم البنك المركزي برفع الفائدة على الإيداع والاقتراض.
- المُميزات: الفائِدة المرتفعة تُشجع الناس على إيداع أموالِهم في المصارفِ طمعا في الفائدة بدلاً من انفاقِ هذا المال. مما يُمَكِّن البنك المركزي من سحب كَميات كبيرة من السيولة النقدية الزائدة المُتداولة في السوق. مما يُقلل الفارق بين المعروض من النُقود والمعروض من البضائع، بالتالي يقِلُّ التضَخُم.
- العُيوب: المبالغة في رفع الفائدة وسحب السُيولة النَقدية من السوق قَد يُدخِل الاقتصاد في حالة رُكود. فالناس ستمتنع عن الشراء والاستهلاك مُفضِلة إيداع أموالِهم في المصارِف للحُصول على الفائدة المرتفعة.
الثانية: (خفضُ قيمة العُملة)
في المثال السابق قُلنا أن المعروض من البضائع يُساوي مَليون جُنيه، بينما السيولة المُتداولة تُساوي مَليونان. فمن أجل الوصول إلى التعادل بين المَعروض من النُقود والمعروض من البضائع، قد يُضطَر البنك المركزي إلى خفض قيمة العُملة بحيث تُصبح القيمة الفِعلية لمَليونان من العُملة تُساوي مَليونا فقط. مما يعني أن العُملة قد فقدت نصف قيمتِها. عِندها يعود التوازن من جديد.
صحيح أنه لا يَزالُ المعروضُ من السيولة أكبر من البضائع من حيث العدد، إلا أنه أصبح يساويه من حيث القيمة. وهو المَطلوب.
فمثلا (لو افترضنا أن الدولار يساوي جُنيه للتبسيط). وكان الناتج القومي يساوي ١٠٠٠ دولار أي ١٠٠٠ جُنيه. ولكن يوجد سيولة في السوق بحجم ٢٠٠٠ جنيه أي ٢٠٠٠ دولار وهو رقم وهمي لأن ناتِجَك القومي قيمتُه الصحيحة هي ١٠٠٠ دولار فقط كما قُلنا. هُنا يحدث تضخم.
فيقوم البنك المركزي بخفض قيمة الجُنيه للنصف. فتُصبح ال ٢٠٠٠ جُنيه تساوي ١٠٠٠ دولار فقط وهو القيمة الصحيحة للناتِج القومي.
- المُميزات: احتمالية اقل لحُدوث رُكود. كما ان مُنتجاتك تُصبح أكثر تنافُسيّة في التصدير.
- العُيوب: يُؤدي لارتفاع الأسعار وغلاء المَعيشة والضغط على الطبقات الفقيرة والمُتوسطة. مما قد يتَسبب في أزمات اجتِماعية.
في الواقِع، وعند حدوث تضَخُم يقوم البنك المركزي بمزيج من الحَلّين معا، فيقوم برفع الفائدة ليقضي على نسبة من التضَخُم ويُخفِض قيمة العُملة ليَقضي على نِسبة أخرى، حتى يتَلافى عُيوبَ كلِ حلٍ من الاثنين، فلا يتَسبب في رُكود كامل وكذلك لا يسحَق الطبقة الفقيرة بارتفاع الاسعار.
يقوم البنك المركزي بالمزج بين تخفيض قيمة العملة ورفع الفائدة لمحاربة التضخم.
سبب التضَخُم الرئيسي هو طِباعة النُقود من العُملة المحلية دون غِطاء مُقابل من الناتج القومي. وقد تُضطر الدول لذلك في حالات، منها:
- الحروب والحاجة لتَمويل اضافي للأعمال العسكرية.
- الأزمات (مثل وباء كورنا) والحاجة لسِيولة نقدية لمواجَهته.
- توفير الدعم على السِلَع والخدَمات التي تُقدَّم للناس بأقل من أسعارها الحَقيقية، كالدعم على الغِذاء أو الوَقود.
- توفيرُ الرواتِب للقطاع الحُكومي الضَخم.
الرُكود
الرُكود هو امتناع المُستهلك عن الاستهلاك والانفاق، فتُصبح البَضائع المَعروضة بلا زَبون يشتريها.
امتناعُ الناسِ عن الاستهلاك يُؤدي إلى سِلسِلة من التَبِعات. فأولا، سيتَوقف المُنتِج عن الانتاج إذ لا أحد يشتَري مُنتجاته. بعدَها يبدأ هذا المُنتِج في إغلاق أجزاء من مصانِعه وخُطوط الانتاج لارتِفاع تكاليف تشغيلها. ثم يبدأ في تسْريح العَمالة، إذ لا حاجة لهم بعد تَوقفِ عمَلية الانتاج، فتزيد نِسَب البَطالة. كلُ هذا بخِلاف توَقُف الاستثمار وعدم تَدشين مشاريع جَديدة، فالمُستثمر لن يُقدِم على انفاق أمواله في سُوق راكِد.
السببُ الرئيسي للركود هو نَقص السيولة النَقدية في أيدي الناس نَتيجة سوء الأحوال الاقتَصادية والأزمات. فالناس عند الأزمات تتجِه للادِخار وقلة الاستهلاك سعيا للحفاظ على أموالِهم لأوقات الحاجة الضَرورية. فمن كان يُخطِط لشِراء منزلٍ جَديد أو سيارة أو ثلاجة مثلا، سيؤجل الفكرة لوقت آخر.
كيف نواجه الرُكود؟
لمحاربة الركود، تتجه الدولة لتشجيع الناس على الاستهلاك وتشجيع المستثمر على الاقتراض والاستثمار. وذلك بثلاثة طرق:
عندما يتوقف الناس عن الانفاق والاستهلاك، يحدث الركود ويتوقف الانتاج.
- الأولى: عن طريق تخفيض سِعر الفائدة إلى أدنى مستوى. وذلك سيُشجع المُستَثمر على الاقتراض والبدء في مشاريع جَديدة، مما يقلل خطر تسريح العمالة ورفع نسب البَطالة.
أيضا تَخفيض الفائدة سيمنع الناس من ابقاء أموالِهم في المصارف إذ ستكون خسائرهم كبيرة نتيجة خصم قيمة المصاريف وخلافِه، مما سيشجع الناس إما إلى انفاق تِلك الأموال أو استثمارها. - الثانية: تشجيعُ الاستِهلاك عن طَريق تقديم تسهيلات مُغرية مٍثل الشِراء بالتقسيط على فترات طويلة قد تصل ل ٣٦ شهرا. فهُنا سيشعر المُستهلك بقيمة أكبر لأمواله. فبدلا من شراء منتج واحد ب ١٠٠ جٌنيه، يُمكنه شراء منتجين ويدفع لكل منهما ٥٠ جنيها الآن ويُقسط باقي المبلغ.
حيث تقوم الدولة بتقديم مِنح نَقدية مجانية للمُواطنين ليَقوموا بانفاقها. فيقوم المُواطن بانفاق هذه الأموال سريعا لأنها ليست من ماله الخاص، مما قد يدفع عجلة الاستهلاك من جديد. - الثالثة: ضَخ سُيولة نقدية مُباشرة في يد المُستهلكين، أو ما يُسمى بال helicopter money. حيث تقوم الدولة بتقديم مِنح نَقدية مجانية للمُواطنين ليَقوموا بانفاقها. فيقوم المُواطن بانفاق هذه الأموال سريعا لأنها ليست من ماله الخاص، مما قد يدفع عجلة الاستهلاك من جديد.
علاقة الركود بالتضخم
عرفنا سابقا تعريف “التضخم” و”الركود”، ونلاحظ هنا شيئا مهما. أن التضخم والركود أزمتان متناقضتان. فتعريف التضخم يناقض تعريف الركود، وكذلك حلول التضخم تناقض حلول الركود.
فالتضخم هو زيادة في السيولة النقدية أكثر من الحاجة، بينما الركود هو نُقصان تلك السيولة النقدية. مواجهة التضخم تكون برفع الفائدة وسحب السيولة، بينما علاج الركود يكون بخفض الفائدة وضخ سيولة نقدية.
المبالغة في رفع الفائدة وخفض قيمة العُملة، يؤدي للركود. والمبالغة في خفض الفائدة وضخ السيولة، يؤدي للتضخم.
فالمبالغة في رفع الفائدة وامتصاص السيولة وخفض قيمة العُملة قد يحرم الناس من الأموال ويدفعهم للادخار المُبالغ فيه أو التوجه لشراء سلع كالذهب لحفظ قيمة أموالهم. ويمتنعوا عن الانفاق والاستهلاك، فيحدث الركود وتتوقف الاستثمارات وتُسرح العمالة وتزيد البطالة.
وكذلك المبالغة في خفض الفائدة وضخ السيولة قد زيادة المعروض منها أكثر من قيمة الناتج القومي الحقيقي، فيحدث التضخم ونضطر لخفض العملة وما يُصاحبه من ارتفاع في الأسعار وصعوبة المعيشة.
لذلك، على رُبان سفينة الاقتصاد أن يكون في منتهى الحذر عن اتخاذ أي قرار اقتصادي ودراسة تبعاته جيدا ومتابعة تنفيذه حتى يتمكن من تدارك أي انحراف للسفينة نحو أي من ضفتي الخليج.
الركود التضخمي
دعونا نرجع للتشبيه الأول للاقتصاد، وأنه كالسفينة المُبحرة في خليج ضيق، عن يمينها صخور التضخم وعن يسارها صخور الركود. فإن بالغت في محاربة التضخم اصطدمت بالركود. وإن بالغت في محاربة الركود، اصطدمت بالتضخم.
أحيانا، يحدث أسواء كوابيس الاقتصاد، وهو أن يضيق الخليج حيث تٌبحر سفية الاقتصاد بحيث تصطدم السفينة بجانبي الصخور معا. يمينا ويسارا. فيحدث التضخم والركود في وقت واحد. وهو ما يٌعرف ب “الركود التضخمي”.
ولكن كيف ذلك وقد قٌلنا أن التضخم والركود متناقضان لا يحدثان معا؟... الحقيقة، أنه هناك سبب آخر للركود -غير نقص السيولة- لم نذكره. وهو المزاج العام للناس الرافض للانفاق.
.عندما يضيق خليج الاقتصاد فتصطدم السفينة بجانبي الصخور معا. ويحدث التضخم والركود في وقت واحد
فأحيانا عندما يكون الوضع الداخلي أو العالمي يملؤه الشك والضبابية والأزمات، يتجه الناس لادخار أموالهم وعدم الانفاق خشية المستقبل. فالناس هنا معها نقود بالفعل ولديهم القدرة على شراء ما يريدون. ولكنهم يؤثرون الادخار. فالمشكلة ليست في نقص السيولة حسب التعريف الأساسي للركود، وإنما سوء الحالة المزاجية.
مثال ذلك ما مر به العالم من أزمتي “كورونا” ثم الحرب في “أوكرانيا” والخوف المتزايد من تبعات تلك الأزمات على العالم كله. فقد دفع ذلك أكبر الاقتصادات إلى الانكماش نتيجة عزوف الناس عن الشراء وحدوث التضخم والركود معا. ونلاحظ ذلك الركود في موجات تسريح العمالة الضخمة في أكبر الشركات مثل تويتر، ميتا، أمازون وغيرهم الكثير في شتى القطاعات.
مكافحة الركود التضخمي
مواجهة الركود التضخمي هي من أصعب المهمات، إذ أن علاج التضخم سيفاقم من الركود وعلاج الركود سيفاقم من التضخم. فهي كالحلقة المفرغة ليس لها بداية ولا نهاية.
ولكن، حسب التجربة العملية في كبرى الاقتصادات، اجتمع خبراء الاقتصاد أن التضخم هو الأخطر بين الأزمتين وهو الأولى بالحل أولا قبل الركود. فعلى الدول المصابة بالركود التضخمي أن تركز أولا على القضاء على التضخم حتى لو أدى هذا لتفاقم أزمة الركود.
وهذا ما نراه واضحا في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية النقدية. حيث يقوم الفيدرالي بزيادة الفائدة بمعدلات جنونية ومتلاحقة لكبح جماح التضخم، متجاهلا في الوقت الراهن حالة الركود المستفحلة والظاهرة في توقف الشركات عن التوظيف وموجات التسريح الضخمة.
فالتجارب أثبتت أنك إن استطعت أن توقف التضخم ولو على حساب الركود، فإن اقتصادك سيكون قادرا على التعافي لاحقا واعادة توظيف كل العمالة المُسرّحة مرة ثانيا مُستقبلا.
ختاما
الحقيقة، أنا لست خَبيرا اقتصاديا، ولكنني ازعُم أن لي بعض المعرفة التي أحِب أن أشاركها معَكُم لعلها تكون سببا في توضيح بعض ما يجري حولنا. خاصة وأننا جميعا أصبحنا مؤخرا مُتابعين للأخبار الاقتصادية سواء كان حُبا منا أو كَرها.
لا تنس أن تشاركنا رأيك بالتعليق والإعجاب . وأيضا، إعادة نشر المقال مع أصدقائك
ما هو رد فعلك؟