رحلة ذو القرنين
رجل طاف الأرض شرقا وغربا ورأى من آيات الله وعجائب خلقه. من هو "ذو القرنين"؟ وما قصته التي رواها لنا الله عز وجل في سورة الكهف؟ وماذا رأى في رحلته التي قال البعض انها دامت ٥٠٠ عام؟
{ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُوا۟ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِى ٱلْأَرْضِ وَءَاتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ سَبَبًۭا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍۢ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًۭا ۗ قُلْنَا يَـٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًۭا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابًۭا نُّكْرًۭا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًۭا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍۢ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًۭا (٩٠) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًۭا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ ٱلسَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًۭا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًۭا (٩٣) قَالُوا۟ يَـٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰٓ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّۭا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌۭ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) ءَاتُونِى زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُوا۟ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارًۭا قَالَ ءَاتُونِىٓ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًۭا (٩٦) فَمَا ٱسْطَـٰعُوٓا۟ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَـٰعُوا۟ لَهُۥ نَقْبًۭا (٩٧) قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌۭ مِّن رَّبِّى ۖ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُۥ دَكَّآءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّۭا (٩٨) } (الكهف)
من هو؟
سألت قريش النبي (صلى الله عليه وسلم) عن "رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها" وطلبت منه الإجابة كدليل على نبوته. فأنزل الله تعالى تلك الآيات يخبرنا فيها عن "ذي القرنين"، الرجل الذي بلغ في أسفاره أقاصي الأرض ورأى من آيات الله العجب العُجاب.
"ذو القرنين" هو رجل آتاه الله من العلم الكثير، حتى صار له أسباب كل شيء. فأيما شيء أراد تنفيذه أو غاية أراد بلوغها، يسر الله له من الأسباب والعلم ما يمكنه من ذلك. واختلفت الأقاويل عن سبب التسمية "ذو القرنين". البعض قال أنه سٌمى كذلك لأنه بلغ قرني الأرض، مشرقها ومغربها. وقال البعض أنه كان يبلع على رأسه خوذة لها قرنين كقرني الثور. ولهذا تفسيرات كثيرة لا تجد لأي منها دليلا قاطعا.
مغرب الشمس
انطلق "ذو القرنين" في رحلته تجاه المغرب. وسار حتى بلغ منتهى الطريق حيث لا يمكنه الاستمرار في المسير. والواضح هنا أنه وصل إلى البحر أو المحيط، فكان ذلك بالنسبة له مغرب الشمس. ومما يستنتج هنا أن "ذي القرنين" لم يكن معه سفن فيركبها لخوض البحر، فلو كانت له سفن لاستمر في اتجاهه تجاه الغرب. وقد رأى الشمس تغرب في المحيط فبدت له وكأنها تغوص في بركة من الماء الذي خالطه الحمأ وهو الطين. كمثل قو الله تعالى عن خلق "آدم" (عليه السلام): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍۢ مِّنْ حَمَإٍۢ مَّسْنُونٍۢ}. فالحمأ هو الطين، والعين الحمئة هي عين الماء التي خالطها الطين.
وهناك عند مغرب الشمس، وجد "ذو القرنين" قوما، أمره الله أن يقضي بينهم بما رأى. فقرر "ذو القرنين" أن يعاقب المفسدين الظالمين ويحسن إلى الصالحين. وقد مكث في هذا المكان فترة من الزمن ثم تركهم وتابع رحلته.
مطلع الشمس
يفسر بعض الناس كلمة مطلع الشمس بأنها مشرقها، وهذا غير صحيح. فلو أراد الله تعالى المشرق لقال (مشرق الشمس). فمن هنا نعلم أن مطلع الشمس هو مكان غير المشرق. وهناك وجد "ذو القرنين" قوما ليس لهم من الشمس سِتر. فهم معرضون لها دائما. وفي تفسير هذا أقوال. البعض قال أن هؤلاء القوم كانوا عراة لم يهتدوا للملابس والثياب. والبعض قال أنهم لا مساكن لهم، فهم يعيشون في العراء. وأنا أختلف مع كلا القولين.
أما الثياب، فلا يُعقل ألا يهتدي قوما إليها، فهي من بديهيات الحياة التي لا تحتاج لعلم أو تطور. فأول ما فعله "آدم" (عليه السلام) وزوجته بعد أن أكلا من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما، هي أن {طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} طلبا للستر. فالإنسان منذ نشأته الأولى وهو يعلم كيف يستر جسده بالثياب، سواء كان من ورق الشجر أو فرو الحيوان أو صوف الأغنام وغيرها.
الثياب والبيوت ليست سترا للشمس فهي من البديهيات التي لا يحتاج الإنسان لكثير علم ليهتدي إليها.
أما البيوت، فأمرها لا يختلف عن الثياب. فالبيوت أيضا من البديهيات التي لا يحتاج الإنسان لكثير علم ليهتدي إليها. بل لا يحتاج إلى عقل من الأساس. فالحيوانات كلها اهتدت إلى البيوت. سواء كانت أعشاش فوق الأشجار أو حفر وجحور تحت الأرض أو فتحات الكهوف في الجبال. وقال الله تعالى في سورة النحل {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} فكيف يهتدي الحيوان لهذا ولا يهتدي إليه الإنسان؟
كما أن سواء الثياب أو البيوت كلاهما لا يُعتبر سِتر للشمس. فالإنسان لا يلبس الثياب ليستتر من الشمس. فمثلا، تجد القبائل في إفريقيا - وهي أرض الشمس - لا يرتدون من الثياب إلا اليسير ولا يطلبون السِتر من الشمس بالثياب. وإنما تُتخذ الثياب للسِتر من البرد ونحوه. وكذلك البيوت لا تُتخذ للسِتر من الشمس. فالإنسان لم يكن يمكث في بيته وقت طلوع الشمس أصلا. فهو في ذلك الوقت يكون في الخارج يسعى لطلب الرزق، ولا يدخل بيته إلا ليلا عند النوم. فالبيوت إنما كانت للسِتر من المفترسات والوحوش فلا تأكله وهو نائم غافل.
الليل سَتر الشمس
إذا مما سبق، نعلم أن السِتر المقصود هنا ليس الثياب ولا البيوت، وإنما هو الليل. فالليل هو ما يحجب الشمس ويسترها عن الناس. ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى قال {...لَّمْ نَجْعَل لَّهُم...} مما يدل هذا السِتر هو سِتر إلهي لا يقدر البشر على الإتيان به، وهو الليل.
والرأي الأرجح - مما سبق - أن هذا المكان الذي هو مطلع الشمس إنما هو في أقصى شمال الأرض قرب القطب الشمالي عند ما يُعرف بالبلاد الاسكندنافية الآن. حيث تُشرق الشمس ٦ أشهر لا تغرب أبدا، ثم تَغرب ٦ أشهر لا تشرق أبدا. وأن "ذو القرنين" وصل إليهم والشمس مشرقة وارتحل عنهم والشمس لاتزال مشرقة. فبدا له وكأن القوم لا سِتر لهم من الشمس.
بين السَدّين
تابع "ذو القرنين" رحلته حتى وصل إلى مكان بين سدين عظيمين، والسد هنا هو أي حاجز يمنع العبور خلاله كالجبل. وكان يعيش خلف هذا السد قوما لا يكادون يفقهون كلام "ذي القرنين". وهنا نقطة مهمة جدا. فهذه التفصيلة البسيطة توضح - في رأيي - الفترة الزمنية التي كان فيها "ذو القرنين". فأنا أرى أن "ذو القرنين" كان في الفترة التي بعد طوفان "نوح" (عليه السلام) ولكن قبل نشأة الحضارات القديمة المعروفة كالفراعنة في مصر أو الآشوريون والبابليون في بلاد الرافدين أو الإغريق في أوربا.
كما نعلم، بعد الطوفان هلك البشر أجمعون إلا من ركب الفُلك مع "نوح" (عليه السلام). وبعد رسو الفُلك، لم يبق من نسل البشر إلا من أبناء "نوح" (عليه السلام) وهم "سام" و"حام" و"يافث". ومن البديهي أن تكون لغتهم كلهم واحدة وهي نفس لغة "نوح" (عليه السلام). ولما تفرق الأبناء في الأرض ليعمروها ظلت لغتهم واحدة تناقلوها مع أبنائهم في شتى بقاع الأرض. ثم بدأت تلك اللغات تتباعد مع الزمن وبُعد المسافات. وبدأ لسان الناس في التبلبل لتتكون اللغات المختلفة من بعدها.
"ذو القرنين" كان بعد طوفان "نوح" (عليه السلام) ولكن قبل الحضارات القديمة.
وأنا أرى أن "ذو القرنين" كان في الفترة التي كانت البشرية لا تزال على لسان "نوح" (عليه السلام). ولكن بدأت في التباعد شيئا واضحا. ف "ذو القرنين" لما ذهب إلى مغرب الشمس، لم يذكر الله صعوبة في التواصل مع أهل تلك المنطقة. وكذلك لما بلغ مطلع الشمس، لم يكن هناك مشكلة في فهم كلامهم. لكنه حين وصل بين السدين، أصبح هناك صعوبة في التواصل وذلك أن لسان هذه الأقوام بدأ في التباعد عن لسان "نوح" (عليه السلام). إلا أن الله لم ينفي القدرة على التواصل نهائيا، لكنه (تعالى) قال أنها كانت صعبة للغاية. كمثل ما يرتحل أحدنا إلى دولة عربية أخرى فيجد صعوبة في فهم لغة أهلها، رغم أنهم يتحدثون العربية ولكن اختلاف اللهجة قد يُحدث صعوبة في التواصل. ولهذا نقول بأن "ذي القرنين" كان في الفترة التي كانت لا يزال لسان الناس فيه متقاربا إلى حد ما. وهذا التقدير الزمني له دليل آخر نسوقه لاحقا.
قال القوم ل "ذي القرنين" أن هناك قوما يُدعَون "يأجوج ومأجوج" يهجمون عليهم دائما ويقتلون منهم ويسرقون وهم لا يقدرون على صدهم. فطلبوا منه العون على حل تلك المشكلة، فعرضوا عليه المال والطعام نظير مساعدته لهم في بناء ردم يحول بينهم وبين هؤلاء المتوحشين.
قبل "ذو القرنين" مساعدة القوم ولكنه رفض أخذ المال وطلب منهم أن ساعدوه بالأيدي العاملة كي تساعده في بناء السد. ولم تذكر القصة أي تفاهم أو حوار تم بين "ذي القرنين" وقوم "يأجوج ومأجوج" أو محاولات للصلح، إما لفشل تلك المساعي أو أن "يأجوج ومأجوج" كانوا من الهمجية والبدائية بحيث لم يكن الحوار معهم ممكنا.
رجل رحّالة
لنا هنا وقفة. فمن سياق الأحداث وما دار من حوار بين "ذي القرنين" والقوم، فأنا أرى أن "ذي القرنين" كان رجلا وحيدا ولم يكن معه جيش كما هو شائع ويظنه الكثير. بل كان رجلا يرتحل وحيدا وقد آتاه الله العلم الوفير وسهل له أسباب كل شيء. وأسباب رأينا هذا ما يلي:
- لو كان ل "ذي القرنين" جيش، لقبل الخرج من القوم ولم يطلب العون. فلو كان معه جيش لاحتاج لإطعامه وتوفير الزاد له. وأيضا ما كان ليحتاج القوة والعون من القوم، فلماذا يحتاج عونا ومعه جيش عظيم طاف معه المشرق والمغرب.
- لو كان ل "ذي القرنين" جيش عظيم كما يشاع لطلب منه القوم قتال "يأجوج ومأجوج" وليس بناء السد. فلو تخيلنا "ذي القرنين" وجيشه المهيب يدخلون القرية بكامل قوتهم وعتادهم، فهل من المنطقي أن يراه القوم على هذه الحالة ثم يطلبوا منه بناء سد؟
لو أن شخصا في بيته يخاف أن يهجم عليه لص من النافذة، وهو جالس بجوار النافذة يترقب هجوم اللص في أي لحظة، ثم جاءه رجل الشرطة. هل سيطلب منه بناء حاجز حديدي أمام النافذة؟ بالطبع لا، هذا طلب غير منطقي لرجل شرطة. بل سيطلب منه القبض على اللص، أليس كذلك؟ ... لكن لو جاءه حدّاد مثلا وليس رجل شرطة، فعندها سيطلب منه بتاء الحاجز الحديدي. فالطلب يجب أن يناسب المطلوب منه.
بنفس المنطق السابق، قام القوم بطلب بناء السد من "ذي القرنين" لأنه كان رجلا وحيدا ليس معه قوة لقتال "يأجوج ومأجوج" ولكنه كان ذو علم واسع وحيلة وأوتي أسباب كل شيء كما أخبرنا الله تعالى. ولو كان معه جيش لطلبه منه القتال والتخلص من الغزاة نهائيا. - أخيرا، لو كان ل "ذي القرنين" جيش لذكرهم الله تعالى صراحة في القصة. فهذا الجيش سيكون شريكا أساسيا في تلك الرحلة ولم يكن الله ليحرمهم من شرف الذكر في القرآن لما لم يحرمهم من شرف صحبة "ذي القرنين". ولنا هنا مثالين.
الأول، هو جيش فرعون الذي ذكره الله تعالى في القرآن ملعونا، رغم أنهم كانوا ينفذون أوامر فرعون. إلا أن ذلك لم يكن لهم عذرا على قتلهم المؤمنين والتنكيل بهم. فكانوا مع فرعون في نفس مصيره. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨)} (القصص).
الثاني، هو كلب أصحاب الكهف. فبرغم أنه كلب ليس عليه تكليف أو حساب ولا يدخل الجنة أو النار، إلا أن الله ذكره مع أصحاب الكهف المؤمنين الذين فضل صحبتهم على البقاء في القرية. فكرمه الله تعالى بأن ذكره معهم في قصتهم فقط لشرف الصحبة. قال تعالى: {إ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ... (١٨)} (الكهف).
ولهذا نقول، أنه لو كان مع "ذي القرنين" جنود رافقوه تلك الرحلة القرآنية، لكان الله كرمهم بالذكر صراحة في القرآن وشرفهم بذلك. فهؤلاء جنود مؤمنون مع قائد مؤمن. فهم بالتأكيد أكرم من جنود فرعون وكذلك كلب أصحاب الكهف.
بناء السد
بدأ "ذو القرنين" ومن معه من القوم في بناء السد. ووضع "ذو القرنين" خطة هندسية عبقرية. فأولا طلب من القوم جمع قطع الحديد التي قام بوضعها فوق بعضها. ثم أشعل فيها النار حتى أحمرت. ثم قام بصب النحاس المنصهر عليها حتى أحكم بناء السد. ولنا هنا عدة وقفات:
"ذو القرنين" كان رجلا وحيدا ولم يكن معه جيش كما يظن الناس.
- البعض يحدد زمن "ذي القرنين" بأنه بعد العصر الروماني وذلك لأن استخدام الحديد لم يكن معروفا قبل ذلك. فالفراعنة مثلا، كانت حضارتهم كلها قائمة على النحاس.
ولكن نقول هنا أن الحديد المذكور في القرآن ليس الحديد المعروف لدينا والذي نستخرجه من المناجم. بل هو "الحديد النيزكي". ولهذا جاء في القرآن {زُبَر الحديد} أي قطع الحديد. والحديد النيزكي هو قطع الحديد التي كانت تتساقط مع الشهب والنيازك. وقد عرفت الحضارات القديمة هذا النوع من الحديد واستخدمته. فمن ضمن مقتنيات الملك المصري "توت عنخ آمون" خنجر من حديد أثبتت التحاليل أنه حديد نيزكي من الفضاء. ف "ذو الفرنين" أمر الناس بجمع قطع الحديد النيزكي وربما علمهم كيف وأين يجدونه. - لو كان الحديد معروفا وكثيرا كما في العصر الروماني، لقام "ذو القرنين" ببناء السد بالكامل من الحديد، ولما احتاج للنحاس نهائيا. فمما لا شك فيه أن الحديد وحده يُغني عن النحاس ولكان السد أكثر قوة ومتانة. لكن اضطرار "ذي القرنين" استخدام النحاس يدُل أن الحديد لم يكن متوفرا بكثرة، بل كان مجرد قطع متناثرة ألقتها النيازك. وهذا دليل إضافي على تقديرنا الزمني لعصر "ذي القرنين" وأنه كان بعد طوفان "نوح" (عليه السلام) ولكن قبل الحضارات القديمة.
- أيضا، مما سبق نعرف أن مادة بناء السد الأساسية هي النحاس وليس الحديد. وإنما كان الحديد لتقوية النحاس وتلافي عيوبه. فالنحاس معدن ذو صلابة منخفضة ويذوب عند درجات حرارة ليست بالمرتفعة. والنحاس وحده لن يجعل السد يصمد طويلا. ولكن إضافة قطع الحديد تلافت عيوب النحاس وجعلت السد أكثر صلابة.
موقع السد
تساءل الكثير عن موقع السد. وبحثوا عنه في كل مكان. ومع تطور العلوم والتكنولوجيا وظهور الأقمار الاصطناعية وقدرتنا على تصوير سطح الأرض بالكامل. تجدد السؤال عن أين يمكن أن يكون هذا السد؟ ولماذا لا نستطيع رؤيته؟ ولنا هنا ملاحظات:
"يأجوج ومأجوج" كانوا يسكنون الكهوف في باطن الأرض وكان السد هو مدخل تلك الكهوف.
- مما هو المعروف، فإن السد قد منع "يأجوج ومأجوج" من الخروج نهائيا. وأن السد كان هو سبيلهم الوحيد للخروج إلى الناس. ولهذا فإن "يأجوج ومأجوج" كانوا يسكنون الكهوف في باطن الأرض وكان السد هو مدخل تلك الكهوف. فلو كان "يأجوج ومأجوج" يعيشون على سطح الأرض، فمن غير المتصور أن يحبسهم سد بين جبلين عن العالم. فهناك مئات الحلول للالتفاف حول الحد أو تسلق الجبال أو حتى التوجه في الاتجاه الآخر والبحث عن قوم آخرين يغزونهم. لكن حبسهم التام عن العالم يدل أنهم كانوا تحت الأرض محبوسين من كل اتجاه ومخرجهم الوحيد هو عبر السد.
- بناء على الملاحظة السابقة فإن السد ليس بالضخامة التي يتصورها البعض. فالبعض يصور السد على أنه مثل سدود المياه الحالية، كالسد العالي مثلا. ولكن -في ظني- السد لن يكون أكبر من مدخل الكهف. ف "ذو القرنين" أراد فقط أن يحبس "يأجوج ومأجوج" عن العالم ولا حاجة لبناء سد عملاق. أيضا، كمية الحديد النيزكي -والتي كانت نادرة- ما كانت لتكفي لبناء سد عملاق كالذي يتصوره الناس، ولكنه يكفي فقط لسد صغير يغلق مدخل الكهف.
- وأخيرا، كان "ذو القرنين" في عجلة شديدة من أمره عند بناء السد ف "يأجوج ومأجوج" سيأتون قريبا ليعاودوا الهجوم على القرية. فبناء السد يجب أن يتم بسرعة بينما العدو في غفلة. لكن إن خرج "يأجوج ومأجوج" والسد لا يزال قيد البناء، فالتأكيد سيقومون بتدميره ولن يمهلوهم حتى يكملوا السد الذي سيحبسهم عن العالم. ولهذا فبناء سد عملاق يستغرق أشهرا أو حتى سنينا طويلة لن يكون بالشيء المنطقي.
ولهذا فإن هذا السد ما هو إلا جدار معدني يغلق مدخل كهف عظيم ويحبس خلفه "يأجوج ومأجوج" بانتظار موعد خروجهم الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا الجدار قد تم طمسه واختفاءه خلف أطنان الحجارة والأتربة التي تراكمت عليه على مر القرون. لذلك فالناظر لسطح الأرض الآن لن يتمكن من تمييز السد ولا معرفة مكانه.
ختاما
إن قصة "ذي القرنين" بها الكثير من الألغاز والعبر. ولطالما حيرت الدارسين حول أحداثها. لكن لو تأملنا القصة بشيء من البساطة دون مبالغات أو تهويل لا دليل قاطع عليه، فعندها ستتكشف لنا الكثير من التفاصيل التي كانت غائبة عنا خلف جدران الخرافة والمبالغة. فهي قصة رجل بسيط آتاه الله علما فجاب الأرض شرقا وغربا مسخرا ما أوتي من علم لخدمة الناس ومساعدتهم.
لا تنس أن تشاركنا رأيك بالتعليق والإعجاب . وأيضا، إعادة نشر المقال مع أصدقائك
ما هو رد فعلك؟