علاء الدين ابن النفيس
هو علاء الدين أبو الحسن علي ابن أبي الحزم ابن النفيس، واحد من مشاهير الأطباء في التاريخ الإسلامي، ممن خلدت ذكراهم اكتشافاتهم في مجال الطب وبراعتهم فيه.
ولد "ابن النفيس" بقرية قرش غير بعيد عن دمشق حوالي عام ٦٠٧هـ/ ١٢١٠م، وبدأ تعليمه الأول في قريته، ثم لما بلغ سن السادسة عشر انتقل إلى دمشق ليواصل التعليم، فدرس القضاء الشافعي واللاهوت والآداب، وتفوق في كثير من العلوم والفنون وخاصة الطب.
كانت مدينة دمشق حينها تعيش حركة نشطة في ميدان الطب، فقد ورثت مجد بغداد، وازدهر فيها العلم بفضل حكامها الأيوبيين الذين كانوا يعيرون العلم والعلماء اهتماما كبيرا حتى أنهم جعلوا من عاصمتهم مركزا مهما للعلوم والفنون، وحققوا فيها نهضة بارزة فكانت المدينة الثانية بعد بغداد وأخذت تجتذب إليها الأضواء وتحتل مكان الصدارة في اجتذاب العلماء.
ولد في دمشق التي ورثت مجد بغداد، وازدهر فيها العلم بفضل حكامها الأيوبيين.
ولعل ما ساعد أيضا في ازدهارها العلمي والثقافي خاصة في مجال الطب تلك المكتبة التي أنشأها نور الدين محمد بن زنكي واستودعها الكثير من نفائس الكتب، وبني بجوارها البيمارستان الطبي الذي اجتذب أمهر الأطباء في ذلك العصر خاصة أولئك العلماء الذين لجئوا إلى دمشق من بغداد حاملين معهم نسخا من أشهر المؤلفات الطبية وغيرها.
وافق هذا ميول "ابن النفيس" وشغفه وحبه للعلوم، إذ تسنى له التتلمذ على يد كبار الأطباء في عصره على غرار: مهذب الدين عبد الرحيم علي الملقب بالدخوار وهو من كبار أطباء عصره أوصى بتحويل بيته ومكتبته إلى مستشفى بعد وفاته، فكان ابن النفيس من الطلبة المستفيدين من مكتبته.
كما تتلمذ أيضا على يد عمران الإسرائيلي وكان زميلا للدخوار ويعمل معه في البيمارستان الذي أقامه نور الدين زنكي، وهناك تدرب ابن النفيس على يدهما معا.
انتقاله إلى مصر
انتقل "ابن النفيس" للعيش والعمل في مصر بعد أن استدعاه السلطان "الكامل محمد" واستقر بالقاهرة وهذا بعد أن بلغت شهرته الآفاق وسمع به السلطان ورغب في استقدامه.
ولم تكن مصر حينها ببعيدة عن النهضة العلمية والطبية التي نشطت في دمشق، فقد بنى سلاطين الأيوبيين والمماليك في مصر كثيرا من المستشفيات مثل: بيمارستان حارة القناديل، وبيمارستان حي المعافر، والمستشفى الناصري الذي بناه صلاح الدين الأيوبي، والمستشفى المنصوري بناه المنصور قلاوون، وكان يحظى فيه المرضى بالعلاج دون أجر ويبدو أن "ابن النفيس" عمل فيه وقد بني قبل وفاته بقليل.
ساعدت هذه المستشفيات على ازدهار علوم الطب في مصر فكان "ابن النفيس" معاصرا لهذه الحركة المزهرة في الحضارة الإسلامية، بحيث ساعدت هذه الظروف العلمية والثقافية بمصر "ابن النفيس" على التفرغ للعلم والتأليف، فضلا عن اكتساب الخبرة والمهارة العلمية من الممارسة خلال عمله في كثير من البيمارستانات. ثم أنيط به الإشراف على المستشفى الناصري ولقب بالرئيس وهناك قام بتدريب عدد من الأطباء على غرار "ابن القف المسيحي" الذي اشتهر كجراح في فترة الحروب الصليبية، كما عمل في المدرسة المنصورية بالقاهرة.
بنى دارا بالقاهرة كان يجتمع فيه مع أهل العلم والطب وعاصر وباءا فتاكا.
بعدما استقر له المقام في مصر بنى "ابن النفيس" دارا بالقاهرة فرشه بالرخام وكان يجتمع فيه مع أهل العلم والطب حيث كان يتردد عليها الأمراء والأعيان، وتجري فيها النقاشات والحوارات العلمية. وفي مصر أيضا عاصر "ابن النفيس" وباءا فتاكا عام ٦٧١هـ قضى على عدد لا يحصى من الرجال والنساء والأطفال، وبذل جهدا كبيرا في القضاء عليه.
وأما من عاصرهم "ابن النفيس" في مصر فنذكر: الشيخ السديد، وأبا عمران موسى بن ميمون القرطبي، ورشيد الدين بن أبي حليفة الذي كان ماهرا في صناعة الترياق الفاروق، وضياء الدين بن البيطار الذي عمل رئيسا للعشابين.
لقد ساعدت هذه الظروف التي وجدها في مصر على إلمامه بما توصل إليه الطب حتى عصره، وبالتالي غزارة الانتاج في هذا الميدان.
انجازات ابن النفيس في ميدان الطب
تخصص "ابن النفيس" في الطب وكرس له كل جهوده العلمية فبرع ونبغ وفاق أبناء زمانه بما أحرزه من اكتشافات وانجازات، حيث يعود له الفضل التوصل لاكتشافات لم يسبقه إليها غيره.
وضع منهاجا للتداوي بالغذاء والمواد الطبيعية وبرع في التشريح واكتشف الدورة الدموية الصغرى.
- التوسل بالغذاء الصحي
اعتمد "ابن النفيس" طريقة علاج فعالة ورغم أنه كان قد أشار إليها أسلافه من قبيل "ابن سينا"، و"أبو بكر الرازي"، و"أبو الريحان البيروني" إلا أنه كان أول من طبقها كطريقة للعلاج أثبتت نجاعتها على يده وهي التوسل بالغذاء في العلاج قبل الاضطرار لتناول عناصر الدواء الصناعية، والعلاج باستخدام المواد الطبيعية غير الضارة بصحة الانسان قبل الاتجاه إلى الأدوية والمواد الكيميائية الغريبة على جسم الانسان.
وهذا الأسلوب في العلاج لم يكتشف لدى الغرب إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين بعد أن قطع الطب شوطا بعيدا في المعالجة والتطبيب. ف"ابن النفيس" وضع منهاجا للعلاج قائم على التداوي بالغذاء والمواد الطبيعية وترك المواد المصنعة كمرحلة أخيرة. - براعته في علم التشريح
ظهرت براعة "ابن النفيس" في الطب عامة وفي علم التشريح خاصة، فقد سمح له عمله في المستشفيات من إجراء الكثير من البحوث والتوصل لنتائج مهمة بفعل الممارسة اليومية، ولأن الفكرة السائدة في ذلك الوقت بحرمة التشريح وعدم انتهاك حرمة الجثث نفى "ابن النفيس" ممارسته للتشريح، إلا أن كتابه "شرح تشريح القانون" يفيد بأنه كان متمرسا فيه بل ويزيد بقوله أن علم التشريح هو علم تطبيقي وليس نظري.
وفي هذا الكتاب "شرح تشريح القانون" تحدث "ابن النفيس" عن نتائج بحثه في ويبدو من عنوانه أنه شرح عن كتاب القانون لابن سينا، لكنه في واقع الأمر أكثر من كتاب شرح وإنما عني فيه "ابن النفيس" فقط بالأجزاء التي تحدث فيها ابن سينا عن التشريح وأضاف عليها معارفه وضمنه نتائج أبحاثه في علم التشريح.
وفيه أشار "ابن النفيس" إلى علم التشريح المرضي أو "الباثولجيا" وهو علم لم يكن قد عرف بعد في عصره. ومن خلال كتابه هذا ندرك أن بحوث "ابن النفيس" قد أسهمت في التأسيس لعلم التشريح على الصورة التي نعرفها اليوم. - اكتشاف الدورة الدموية
يعود الفضل ل"ابن النفيس" في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى ولو أن العلم الحديث لم ينصفه، وقد تمكن من التوصل لهذا الاكتشاف من خلال ملاحظاته وتجاربه في التشريح وممارساته على الجثث حتى توصل في النهاية إلى تصور كامل للدورة الدموية الصغرى التي لم يكن قد توصل لها من سبقه، فصل هذا في كتابه "شرح تشريح القانون".
لكن اكتشافه هذا أهمل ولم يحظ بأي اهتمام في مصر أو في البلاد العربية في حين لقي الاهتمام الذي يستحقه في أوروبا وفي إيطاليا بشكل خاص، حيث ترجم كتابه هذا إلى اللغة اللاتينية وهي لغة العلم آنذاك، سنة ١٥٤٧م أي بعد سنوات قليلة من وفاته فتسنى للعلماء هناك الاستفادة من المعلومات والمعارف التي يحويها الكتاب.
وضعت نسخة منه في جامعة بادو في البندقية فكان مرجعا للأطباء وطلاب الطب، حتى أنه ظهر ثلاثة علماء هناك يصفون دورة الدم في الرئة بنفس الألفاظ التي استخدمها ابن النفيس ونسبوا هذه النظرية إليهم دون أن يأتوا على ذكر "ابن النفيس".
وكان من بين الذين اعتمدوا في بحوثهم على هذا الكتاب في فترة لاحقة الطبيب الإيطالي هارفي وهو الذي ينسب إليه اليوم اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، دون الإشارة لفضل كتاب ابن النفيس على أساتذة الطب في إيطاليا.
وظل "ابن النفيس" مغمورا لم يعط حقه بما توصل إليه من اكتشاف حتى عثر أحدهم بمحض الصدفة، وهو محيي الدين التطاوي ١٨٩٦- ١٩٤٥م كان باحثا في الدكتوراه على مخطوط "شرح تشريح القانون" لابن النفيس في مكتبة برلين، من خلال اطلاعه على المخطوطات العربية هناك.
فعني بدراسته وتقدم ببحث الدكتوراه في "الدورة الرئوية تبعا للقرشي" (ويقصد ابن النفيس) فكان له الفضل في اكتشاف هذا العالم الجليل واكتشاف عبقريته في علم التشريح وتوصله إلى معرفة الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بمئات السنين مما وجه أنظار الباحثين ومؤرخي العلم إليه.
مؤلفاته
كان "ابن النفيس" غزير التأليف ترك لنا العديد من الكتب في كثير من العلوم والفنون، فقد ألف في الطب والتشريح وطرق الكشف والمعالجة، ولم يقتصر انتاجه العلمي على الطب فحسب بل ألف أيضا في الفقه واللغة وعلم البيان والحديث والمنطق، وشرح كثيرا من مؤلفات أسلافه خاصة ابن سينا الذي كان معجبا به.
لكن هذا الانتاج الوفير ضاع الكثير منه فقد اندثرت كثير من مؤلفات "ابن النفيس" ولم يصلنا إلا النزر اليسير. ونذكر من مؤلفاته:
في الطب:
- الشامل في الطب: وهو كتاب ضخم من عدة مجلدات جمع فيه كل ما توصل إليه الطب في زمانه، من أهم ما ألف ابن النفيس وهو من شاكلة الحاوي في الطب لأبو بكر الرازي، لكنه ضاع ولم يتبق منه سوى بعض الفقرات في مكتبة البودليان بأكسفورد.
- شرح تشريح القانون: وهو من أهم كتبه الباقية، ضمنه اكتشافاته الطبية.
- المهذب في الكحل: واشتهر في زمانه، وتوجد نسخة منه في مكتبة الفاتيكان
- المختار من الأغذية: عني بالغذاء في الأمراض الحادة، توجد نسخة منه في مكتبة برلين.
- شرح فصول أبقراط: وتوجد له نسخ في برلين وأكسفورد وباريس.
- تعليق على كتاب الأوبئة لأبقراط: موجود في آيا صوفيا.
- شرح تقديمات المعرفة.
- شرح تشريح جالينوس.
- شرح مسائل حنين بن إسحاق.
في العلوم الأخرى:
- شرح كتاب الشفاء لابن سينا: وهو في الفلسفة.
- فاضل بن ناطق: وهو كتاب أو قصة فلسفية وضعها في الرد على كتاب "حي بن يقضان" لابن طفيل، ومدحه كثيرون وأقروا ببراعته في الفلسفة.
- طريق الفصاحة.
- الرسالة الكاملة في السيرة النبوية.
- مختصر في علم أصول الحديث.
- شرح كتاب التنبيه في فروع الشافعية.
وفاته
توفي "ابن النفيس" في القاهرة يوم الجمعة سنة ٦٨٧هـ/ ١٢٨٨م، وقيل أنه أصيب بمرض فأشار عليه بعض أصحابه من الأطباء بتناول شيء من الخمر وكان صالحا لإبراء علته فيما زعموا- فأبى أن يتناول شيئا منه وقال: "لا ألقى الله تعالى وفي باطني شيئ من الخمر"، وبقي كذلك حتى توفي.
وكان لوفاته أكثر بليغ في قلوب معاصريه فيما ذكر ابن اياس، حتى أن أحدهم رثاه بقصيدة تصف مدى الحزن على هذا المصاب الجلل.
المراجع
- مقدمة تحقيق الموجز في الطب، ابن النفيس، (تحقيق محسن عقيل، دار المحجة البيضاء، بيروت، لبنان، ٢٠٠٢).
- محمد فارس، موسوعة علماء العرب والمسلمين، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، ١٩٩٣).
- بركات محمد مراد، ابن النفيس واتجاهات الطب العربي العلمية.
لا تنس أن تشاركنا رأيك بالتعليق والإعجاب . وأيضا، إعادة نشر المقال مع أصدقائك
ما هو رد فعلك؟